[center][size=25][size=25]
[center]كيف نستطيع الجمع بين الحديثين
الشريفين: ( أناس من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة فيجعلها
الله هباء منثوراً ) ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين إذا خلو
بمحارم الله انتهكوها ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، وبين قوله صلى
الله عليه وسلم ( كل أمتي معافى إلا المجاهرون ) .
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
نص الحديثين موضع الإشكال :
أ. عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا
مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ
جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً
مَنْثُورًا ) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ،
جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ :
( أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ
اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا
بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) .
رواه ابن ماجه ( 4245 ) ، وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجه " .
الهباء في الأصل : الشَّيءُ المُنْبَثُّ الَّذي تَراه في ضَوْء الشمسِ .
محارم الله : هي كل ما حرَّمه الله تعالى من المعاصي ، الصغائر ، والكبائر .
ب. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ
مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ
يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ
عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ،
وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ).
رواه البخاري ( 5721) ومسلم ( 2990 ) .
ثانياً:
قد استشكل كثير من الناس
الجمع بين هذين الحديثين ، وتعددت أماكن سؤالهم عن ذلك الجمع ، ونذكر ما
تيسر من أوجه الجمع بينهما ، سائلين الله تعالى التوفيق ، فنقول :
إن الذي دعا إلى استشكال
الحديثين هو ما حواه معناهما مما ظاهره التعارض ، فإن الحديث الأول ليس فيه
أن أصحاب المعاصي قد جاهروا بمعاصيهم ، وبمقتضى الحديث الثاني فهم "
معافوْن " ، فكيف تحبط أعمالهم ، ويتوعدون بالسخط والعذاب ؟! ومن هنا جاء
الإشكال في ظاهر الحديثين ، فذهب العلماء في الجمع بينهما مذاهب شتَّى ،
ومن ذلك :
1. القول بتضعيف حديث ثوبان ، وقد علَّله بعضهم فضعَّف سنده بالراوي " عقبة بن علقمة المعافري " ، وحكم على متنه بالنكارة .
أ. ويرد على تضعيف سنده :
بأن الراوي عقبة بن علقمة
وثَّقه كثيرون ، وممن وثقه : ابن معين ، والنسائي ، ومن حكم على رواياته
بالرد فإنما هو إذا روى عنه ابنه " محمد " ، أو روى هو عن " الأوزاعي " ،
وهذا قول الأئمة المحققين في حاله ، وليست روايته في هذا الحديث عن
الأوزاعي ، ولا رواه عنه ابنه محمد ، فالسند حسن على أقل أحواله .
ب. ويرد على نكارة متنه بأن
له نظائر معروفة ، كما في قوله تعالى : ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا
يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً )
النساء/ 108 .
وهو وإن لم يكن فيه حبوط أعمال أولئك بلفظ الآية ، إلا أنه يُعرف ذلك بمعناها .
قال ابن كثير رحمه الله:
هذا إنكار على المنافقين في
كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس ؛ لئلا ينكروا عليهم ، ويجاهرون الله بها ؛
لأنه مطّلع على سرائرهم ، وعالم بما في ضمائرهم ، ولهذا قال : ( وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) تهديد لهم ، ووعيد .
" تفسير ابن كثير " ( 2 / 407 ) .
2. أن حديث ثوبان في
المنافقين ، وحديث أبي هريرة في المسلمين ، فلا تعارض بينهما ، لا سيما إذا
حملنا النفاق هنا على النفاق العملي الذي لا ينافي أخوة الإيمان .
والواقع أن المتأمل في حال
بعض من يقع في المنكرات هذه الأيام من أهل الخير والصلاح الظاهر ، وباعتراف
من يتوب منهم يجد عجباً ، من ارتكاب ذنوب " الخلوات " بشكل يمكن إطلاق وصف
" انتهاك " عليه ! فمن هؤلاء من تكون خلواته في مشاهدة الفضائيات الفاسدة ،
والنظر في الإنترنت إلى مواقع الجنس الفاضح ، واستعمال أسماء مستعارة
للمحادثة والمراسلة مع الأجنبيات ، ثم تجد هؤلاء لهم نصيب في الظاهر من
الاستقامة ، في اللباس ، والصلاة ، والصيام ، ومن هنا كان هذا الحديث
محذِّراً لهؤلاء أن يكون حالهم حال المنافقين ، أو أن يكونوا أعداء لإبليس
في الظاهر ، أصدقاء له في السرِّ ، كما قال بعض السلف .
قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله:
الكبيرة السادسة والخمسون بعد
الثلاثمائة : إظهار زي الصالحين في الملأ ، وانتهاك المحارم ، ولو صغائر
في الخلوة : أخرج ابن ماجه بسند رواته ثقات عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لأعلمنَّ أقواماً مِن أمتي يأتون .... ) .
لأن من كان دأبه إظهار الحسن ، وإسرار القبيح : يعظم ضرره ، وإغواؤه للمسلمين ؛ لانحلال ربقة التقوى ، والخوف ، من عنقه .
" الزواجر عن اقتراف الكبائر " ( 2 / 764 ) .
3. قوله صلى الله عليه وسلم (
إِذَا خَلوا بِمَحَارِمِ الله ) لا يقتضي خلوتهم في بيوتهم وحدهم ! بل قد
يكونون مع جماعتهم ، ومن على شاكلتهم ، فالحديث فيه بيان خلوتهم بالمحارم ،
لا خلوتهم مع أنفسهم في بيوتهم ، فليس هؤلاء بمعافين ، والمعافى الذي في
حديث أبي هريرة الذي يظهر لنا أنه يفعل المعصية الغالبة عليه وحده ، ولذا
جاء في الحديث أنه شخص بعين ، وأن ربَّه قد ستره ، (يَعْمَلَ الرَّجُلُ
بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ) ،
وحديث ثوبان فيه الجمع ( قوْم ) و ( خَلَوا ) .
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله:
الذي يبدو أن ( خلوا بمحارم
الله ) ليس معناها " سرّاً " ، وإنما : إذا سنحت لهم الفرصة انتهكوا
المحارم ، فـ " خلَوا " ليس معناها " سرّاً " ، وإنما من باب " خلا لكِ
الجو فبيضي واصفري " .
" سلسلة الهدى والنور " شريط رقم ( 226 ) .
7. وصف هؤلاء المذكورون في
حديث ثوبان بأنهم "ينتهكون" محارم الله ، وهو وصف يدل على استحلالهم لذلك ،
أو مبالغتهم فيها في هذه الحال ، وأمنهم من مكر الله ، وعقوبته ، وعدم
مبالاتهم باطلاعه عليهم . فلذا استحقوا العقوبة بحبوط أعمالهم ، وليس
الوعيد على مجرد الفعل لتلك المعصية ، ولعله لذلك سأل ثوبان رضي الله عنه
النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يجلِّي حال أولئك ، وأن يصفهم ؛ خشية أن
يكونوا منهم ، وهم لا يدرون ، ومثل هذا إنما هو طلب لمعرفة حال قلوب أولئك
العصاة ، وليس لمعرفة أفعالهم مجردة .
قال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله :
أي : أن عندهم استهتاراً ،
واستخفافاً بالله عز وجل ، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار ،
والمعصية التي تأتي بغير انكسار ، بين شخص يعصي الله في ستر ، وبين شخص
عنده جرأة على الله عز وجل ، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء ، وإن
كانت أمثال الجبال ، فإذا كان بين الصالحين : أَحْسَنَ أيما إحسانٍ ؛ لأنه
يرجو الناس ولا يرجو الله ، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال ، فظاهرها حسنات ، (
لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ) فهم في السر لا يرجون لله وقاراً ،
ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى ، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه
منكسر ، ويكره هذه المعصية ، ويمقتها ، ويرزقه الله الندم ، فالشخص الذي
يفعل المعصية في السر وعنده الندم ، والحرقة ، ويتألم : فهذا ليس ممن ينتهك
محارم الله عز وجل ؛ لأنه - في الأصل - معظِّم لشعائر الله ، لكن غلبته
شهوته ، فينكسر لها ، أما الآخر : فيتسم بالوقاحة ، والجرأة على الله ؛ لأن
الشرع لا يتحدث عن شخص ، أو شخصين ، ولا يتحدث عن نص محدد ، إنما يعطي
الأوصاف كاملة .
مِن الناس مَن إذا خلا
بالمعصية : خلا بها جريئاً على الله ، ومنهم من يخلو بالمعصية ، وهو تحت
قهر الشهوة ، وسلطان الشهوة ، ولو أنه أمعن النظر وتريث : ربما غلب إيمانُه
شهوتَه ، وحال بينه وبين المعصية ، لكن الشهوة أعمته ، والشهوة قد تعمي
وتصم ، فلا يسمع نصيحة ، ولا يرعوي ، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان ،
قال تعالى : ( إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ) آل عمران/ 155 ، فإذا حصل الاستزلال من
الشيطان ، فزلت قدم العبد ، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية ، والله
يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم ، وأنه كاره لها ، حتى إن بعضهم يفعل
المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها : فهذا معظِّم لله
عز وجل ، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية ، وقد يكون
سبب ابتلاء الله له أنه عيَّر أحداً ، أو أنه عق والداً ، أو قطع رحمه ،
فحجب الله عنه رحمته ، أو آذى عالماً ، أو وقع في أذية ولي من أولياء الله ،
فآذنه الله بحرب ، فأصبح حاله حال المخذول ، مع أنه في قرارة قلبه لا يرضى
بهذا الشيء ... .
فالذي يعصي في السر على مراتب
: منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف ، فبعض العُصاة تجده لما يأتي إلى معصية
لا يراه فيها أحد : يذهب الزاجر عنه ، ويمارسها بكل تهكم ، وبكل وقاحة ،
وبكل سخرية ، ويقول كلمات ، ويفعل أفعالاً ، ولربما نصحه الناصح ، فيرد
عليه بكلمات كلها وقاحة ، وإذا به يستخف بعظمة الله عز وجل ، ودينه ، وشرعه
، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى ، وصام ، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله
وقاراً - والعياذ بالله - فليس هذا مثل من يضعف أمام شهوة ، أو يفتن بفتنةٍ
يراها ، ويحس أن فيها بلاء ، وشقاء ، ويقدم عليها ، وقلبه يتمعر من داخله ،
ويتألم من قرارة قلبه ، ثم إذا أصاب المعصية ندم .
... .
فهذا الحديث – أي : حديث
ثوبان - ليس على إطلاقه ، وإنما المراد به : من كانت عنده الجرأة - والعياذ
بالله - ، والاستخفاف بحدود الله .
" شرح زاد المستقنع " ( رقم الدرس 332 ) .
نسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان ، وأن يزينه في قلوبنا ، ونسأله أن يبغِّض إلينا الكفر ، والفسوق ، والعصيان .
والله أعلم
موقع الإسلام سؤال وجواب
[/center]