من أجلها
بقلم د/ عمرو عبد الحميد
نظرت
اليها من بعيد حيث تقترب .. انها تقترب .. حتى وقفت أمامى .. كم كنت
أعشقها و كأن بينا حبا قديما .. انها الحافلة التى استقلها الى بيتى بعد
انتهاء عملى .... صعدت اليها وكعادة كل يوم اضطررت الى الوقوف ...
********
بدأت
الحافلة تتحرك و يهتز جسدى معها .. و كم تغمرنى تلك السعادة حين أرى ذلك
المزيج من الركاب بصورة يومية و ما يدور من مناقشات ملتهبة ..
هناك من يحدث من بجواره و يعلو صوته :
- الدنيا نار .. كل حاجة نار .. هنعمل أيه .. نبيع ولادنا عشان نكمل الشهر ..
و يضرب بكفيه , و الأخر يسمعه فى حزن .. و لايرد سوى بجملة واحدة :
- احنا لنا ربنا .. و تستمر المناقشة ..
أقلب
بعيونى .. و أنظر الى أخر يجلس بجوار نافذة الحافلة .. انه شاب وسيم ينظر
الى النافذة ولايحرك ساكنا .. يبدو أن همومه أحمالا هو الآخر ..
تتحرك عينى الى تلك الفتاة بجوارى التى تهمس فى هاتفها مبتسمة :
- مش هقولك الا لما تحول لى رصيد .. ثم تواصل حديثها ..
أدركت و كأننى أقلب قنوات التلفاز حين وجدت من يقرأ الصحيفة .. و هناك من يجادله :
- الاهلى أقوى .. و الثانى :- لأ .. الزمالك أقوى ..
**********
لم
يثر فضولى أى من تلك المناقشات .. فأنها صورة تتكرر أمام عينى يوميا , و
لا أجد فيها الجديد .. حتى خرجت من ابتسامة حين وجدت ما هو مختلف ... انهما
اثنان .. شاب و فتاة .. يجلسان متجاورين .. كم كانا فى انسجام عجبت له
ظللت
أرقبهما و أتابع تلك البسمات المتبادلة .. و للعجب لا يحدثان بعضهما ..
انهما يشيران بأيديهما .. أدركت أنهما لا يمتلكان القدرة على الكلام ..
انهما أبكمان ..
من ينظر اليهما ويرى تلك الابتسامة التى تعلو شفتيهما يدرك أنهما فى عالم آخر .. لا يهتمان بما يشعر به باقى الركاب ..
كم كانت ابتسامته جميلة و ابتسامتها أجمل حتى جذبا انتباه باقى الركاب .. و كأنهم شعروا بالغيرة من تلك السعادة التى تغمرهما ..
********
بعدها
وجدت من كان يتحدث عن الغلاء قد سكت .. و بدأ يرقبهما فى هدوء و علت وجهه
ابتسامة .. و من كان يتحدثان عن كرة القدم صمتا .. و ظلا يتابعان حركات
أيديهما المتناسقة .. حتى ساد الحافلة صمت غريب .. و اكتفى الركاب
بمشاهدتهما .. و مع هذا لم يهتما بأى شئ من حولهما و واصلا مناقشتهما التى
لا يفهمها غيرهما ..
تعجبت كثيرا لهذا .. كيف استطاعا أن يجعلا
من هؤلاء الناس أشخاص أخرى تنسى همومها و لو للحظات .. و كانت اجابتى لنفسى
.. أننا نادرا ما نجد لحظات جميلة ..
********
حتى
وقفت الحافلة و همت الفتاة لتغادرها .. و كم كانت لحظة وداع رائعة .. تشير
بأيديها باشارات أدركت بها كم تحب هذا الشاب .. لا تأبه بما يحيطها من
نظرات الناس .. و هو الأخر أدركت من عينيه كم يحبها ..
نزلت
الفتاة .. و وجدت مكانها خاليا فاتجهت اليه وجلست بجوار الشاب .. و لكننى
لسوء حظه أننى لن استطيع أن أضيع ملل طريقه .. و لا استطيع أن أتحدث معه ..
حتى فوجئت به يسألنى :
- لو سمحت الساعة كام ؟
نظرت اليه فى مفاجاة :
- انت بتتكلم ؟!!
هز رأسه :- ايوة
شعرت بالاحراج :
- أنا فكرتك ..
قاطعنى الشاب فى ابتسامة :
- أخرس ..
مازلت فى دهشتى :
- أيوة .. و الناس دى كلها فكرتك كدة ..
*********
صمت الشاب مجددا و لم ينطق بعدها .. حتى وقفت الحافلة مرة أخرى و استعد لمغادرتها .. ثم نظر الىّ فى ابتسامة :
- أنا اتعلمت لغة الاشارة عشانها ... ثم غادر الحافلة ..
أما
أنا فاستلقيت بظهرى على مقعدى مجددا .. أفكر كيف كافح هذا الشاب كيف يسعد
من يحبها .. و بعدها استمعت مرة أخرى الى مناقشات الركاب التى بدأت من جديد
.. و لا تفارقنى صورة الشاب و الفتاة و انسجامهما .. و تمنيت لو تعلمت لغة
الاشارة ..